جدي

الحادي عشر من آذار عام 2014
جلست استرق السمع رغم ضجيج هذه الحياة، وأستمتع بصوت المطر الهاطل بعد طول انتظار. أغمضتُ عينيّ وأخذتني ذكرياتي لأيام الطفولة لأجلس في أحضان جدّي “أبو ميشيل”، وأسمع كلماته وهو يهز رأسه طرباً لصوت المطر الهاطل بغزارة ويقول: “جدّك يطرب لصوت المطر ولصوت فريد”. فقد كان فريد الأطرش، كما كنت اتخيّل، جزءاً من عائلتنا أو شخصاً تربطه بالعائلة قرابةٌ ما نتيجة لحب جدي وأبي لصوته ولأغانيه.
اه يا جدّي كم أشتاق للذكريات الجميلة معك، فلقد عرفتك في سنواتك الأخيرة فقط، رغم سنوك الطويلة.
نعرف الجدّ أكثر بعدما ينتقل عنا إلى الحياة الأبدية، هذا ما يقوله الأحفاد عادةً بعد موت الجدّ أو الجدّة. عندها فقط يسمح الأقرباء لأنفسهم بالتحدّث بحريّة عن حياة الجدّ. وعندها يبدأ الأحفاد بتكوين صورة أوضح عن جدّهم أو جدّتهم.
جدّي يوسف كان في شبابه فارساً بحسب قول الأقرباء. خيّال فرس من الدرجة الأولى. الأفضل بين شباب جيله. خاصةً عندما كان يُقام الميدان يوم العرس، ويقوم الشباب بالسباق ويركب العريس على ظهر الفرس الفائزة ليجوب شوارع القرية قبل الإكليل. “أغلب عرسان البلد طافت في البلد على ظهر فرسنا.” هذا ما كانت تقوله جدّتي بافتخار.
أذكر جيّدا قصة رواها لي أبي، وأذكر بعدها أنني اتخذتُ قراراً بشأن جدّي. لقد قرّرت بداخلي واقتنعت أن جدّي هو مثلي الأعلى والوحيد. تدور أحداث القصة في سنوات الثلاثين من القرن الماضي، زمن الثورة الكبرى في بلاد الشام.
كان الثوّار يقتلون المخاتير ظنّاً منهم أن كلّ مختار متواطئ مع الاحتلال آنذاك. وكان “أسعد سليم” شقيق جدي مختاراً في قريتنا الوديعة، وبعد عدة حوادث قتل لمخاتير في قرى مجاورة، قررت العائلة إرسال ابنها المختار “أسعد” إلى قرية في جنوب لبنان لحمايته، واختاروا جدي “يوسف” ليكون مختاراً بدل أخيه. ذات يوم من أيام الربيع في نهاية الثلاثينيات، إذ بمجموعة ضباط بريطانيين يقتادون ثائراً سورياً كان يحارب في جنوب لبنان نحو المعتقل في الجليل. وبطبيعة الحال تمرّ المجموعة في قرى الجليل بهدف الإحتماء من الثوار الذين قد يحاولون إنقاذ رفيقهم. تدخل المجموعة قريتنا ويحلّ أفرادها ضيوفاً على بيت جدي. يرحب بهم المختار ويهمس سراً للثائر: “أطلب ماءً لتشرب، وابقَ صامتاً مهما حدث.”
يطلب الشخص ماءً ويحضر جدي الإبريق مع كؤوس للضيوف. يشرب الجميع وبضمنهم الشخص المحجوز، وعندما يرد الكأس لجدّي يقوم جدّي بكسرها على صخرةٍ قريبة. يستغرب الضباط من الأمر ويسأل أحدهم جدي عن السبب فيجيبه بهدوء: “أنا لديّ ولدٌ وحيد ولا أريده  أن يمرض ويموت. هذا الثائر معروف للجميع، فهو مريض بالسّل منذ فترة. تركته عائلته وتركه رفاقه خشية انتقال المرض إليهم. لم يبقَ له سوى بضعة أشهرٍ ثم يقتله المرض. نصيحتي أن تتركوه قبل أن تنتقل العدوى إلى داخل السجن، وعندها قد تفقدون ضبّاطاً وجنوداً وينتشر الوباء بين صفوف الجيش، وهذا أمرٌ أنتم بالغنى عنه.”
يسأل الضابط المسؤول جدي: “هل أنت متأكد؟” فيجيبه جدّي: “لو لم يكن كلامي صحيحاً لكان رفاقه قد هاجموكم في الطريق.”
يترك الضباط الثائر ليذهب في طريقه، ويذهبون هم في طريقهم. وفي الليل يأتي الشخص حراً ليشكر المختار ويخبره قصة أخرى. قال لجدي: “كيف تنقذني وأنت لا تعرفني؟ أنا كانت لديّ مهمة واضحة وهي اغتيال ثلاثة مخاتير في الجليل، وكان من الممكن أن تكون أنت واحداً منهم. أنا سأعود دون تنفيذ المهمة.”